بعدَ بَيْعةِ العقَبة الثانية أخَذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحرِّض المؤمنين على الهِجرة إلى يَثرب (المدينة المنوَّرة)؛ حيث أحسَّ المؤمنون المعذَّبون الصابِرون باقتِرَاب الفرَج من الله- تعالى- ونُزُول رحمته بهم- سبحانه- وأنهم قد صارَ لهم قوَّة تَدفَع عنهم ذُلَّ الاستِضعاف والتعذيب الذي لاقوه على يد أعداء الله؛ كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
وقد ظهَرتْ في هذه الهِجرة عِدَّةٌ من دَلائل نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم منها: خروجُه صلى الله عليه وسلم من بيته ومُرورُه بين الفِتيَة الذين جمعَتْهم قريش من القَبائل لقَتْله صلى الله عليه وسلم فمرَّ من بينهم وهم وقوفٌ يَنظُرون فلم يُبصِروه- صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأيضًا لَمَّا تَبِعَ سُراقةُ بن مالك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ الصدِّيق وكاد أنْ يُدرِكهما، قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كيفَ بِكَ إذا لبستَ سوارَيْ كِسرَى؟»، وبعدَها بزمنٍ ليس بالقليل دَعاه عمرُ بن الخطَّاب- رضِي الله عنه- قائلًا: أين سُراقةُ بن جُعشُم؟ فأُتِي به أشعَرَ الذراعين دقيقَهما، فأعطاه سوارَيْ كِسرَى فقال: البَسهُما, ففعل, فقال: قُل: الله أكبر، قال: الله أكبر، قال: قُل: الحمد لله الذي سلَبَهُما من كِسرَى بن هُرمُز وألبَسَهما سُراقَةَ بن جُعشُم أعرابيًّا من بني مُدلِج.
وظهَر من نُبلِ أخلاقه وشِيَمِه صلى الله عليه وسلم أيضًا الشيءُ العجيب عندما رَدَّ الوَدائِع والأمانات إلى أصحابها الذين أودَعُوها إيَّاه؛ حيث إنَّ القوم كانوا يُسمُّونه صلى الله عليه وسلم: الصادق الأمين، وكانوا يُودِعونه أماناتهم وأموالَهم، فعندَما جاءَه الأمرُ الإلهيُّ بالهجرة، وقبل أنْ يَشرَع فيها، أمر رَبِيبَه عليَّ بنَ أبي طالبٍ- رضِي الله عنه- أنْ يردَّ هذه الأمانات والوَدائِع إلى أهلها، فسُبحان من أدَّبَه- صلَّى الله عليه وسلَّم!
وفي هذا مَلحَظٌ طَرِيفٌ وإشارة مهمَّة، وهي: أنَّ المسلم مهما أحاطَ به من كُروبٍ وشَدائد ومَصائِب وأذًى، فلا بُدَّ أنْ يتمسَّك بما هو عليه من الحقِّ الذي يَدِين به؛ فلا يحمله أذى المُؤذِين على خِيانة أماناتهم، أو نقْض عهودهم، وهو ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فالقوم آذوه واضطهَدُوه ووقَفُوا في وجْه دَعوَة الحقِّ، فلم يُؤثِّر كلُّ ذلك في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بل عاملَهُم بأسمى ما يُمكِن من أخلاقٍ، ووَسِعَ سموُّ أخلاقِه ورحمةُ فُؤادِه كلَّ أذاهم، وأدَّى إليهم أماناتهم!
وظهَر من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أيضًا أنَّه لَمَّا خرَج من مكَّة قال: «واللهِ إنَّك لَأحبُّ أرض الله إلَيَّ، وإنَّك لَأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنَّ أهلَك أخرَجُوني منك ما خرَجتُ»[1]، فلم يَسُبَّهم، ولم يلعَنْهم؛ فهو الشَّريف الطاهر المُطهَّر- صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم.
وظهَرَتْ في الهجرة أيضًا عِدَّةُ مناقبَ لسيِّدنا أبي بكرٍ الصدِّيق- رضِي الله عنه- حيث إنَّه لَمَّا أراد الخروج للهجرة قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَعجَلْ لعلَّ الله يجعلُ لكَ صاحبًا»[2]، وكان هذا الصاحب هو سيِّده وسيِّدنا النبي صلى الله عليه وسلم فيا له من شرف!
وأيضًا ظهَر قوَّةُ حبِّه وشدَّةُ حِرصِه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كان- رضِي الله عنه- يَسِير خَلفَ الرسول تارَةً، وفي أمامه تارَةً، وعن يمينه تارَةً، وعن شماله تارَةً، فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك قائلًا: «ما هذا يا أبا بكرٍ؟! ما أعرِفُ هذا من فِعالِكَ!»، فقال: يا رسولَ الله، أذكُرُ الرَّصَدَ فأكون من أمامك، وأذكُرُ الطَّلَبَ فأكون خَلفَك، ومرَّةً عن يمينك، ومرَّة عن يَسارِك، لا آمَنُ عليك[3].
ويَنزِل فيه- رضِي الله عنه- قرآنٌ يُتلَى إلى يوم القيامة؛ قال- تعالى-: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
قال الإمام القرطبي:
السَّادِسَةُ: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، هذه الآية تضمَّنَتْ فَضائِل الصدِّيق- رضِي الله عنه- روى أصبَغُ وأبو زيدٍ، عن ابن القاسم، عن مالك {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] هو الصدِّيق، فحقَّق الله- تعالى- قوله له بكلامه ووصف الصُّحبة في كتابه[4]، فصُحبَتُه- رضِي الله عنه- أقرَّها وذكَرَها ورَضِيَها الله في كتابه الكريم.
وأيضًا ظهرَتْ مَنقبةٌ لسيِّدنا علي بن أبي طالبٍ- رضِي الله عنه- حيث اختارَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لرَدِّ هذه الوَدائِع والأمانات إلى أهلها، ويا لها من مَنقَبة! إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يَثِقَ في عليٍّ وفي ديانته وفي خُلقِه- رضِي الله عنه- إلى هذه الدرجة التي تجعَلُه يستَأمِنُه على رَدِّ أمانات القوْم!
وبعد ذلك موقفه الجليل في نَومِه مكان النبي صلى الله عليه وسلم في فراشه وفي بيته، فلم يرهب ولم يَخشَ، وكيف يرهب وهو البطل المؤمن المِغوَار؟!
الأخْذ بالأسباب:
مع أنَّ الهجرة جاءَتْ بوحيٍ من الله إلاَّ أنَّ النبيَّ- وهو الذي علَّم الدنيا كلها مبدأ الأخْذ بالأسباب والذي لا يُنافي حُسنَ التوكُّل على الله- أخَذ بأسباب الوصول بسَلامٍ وأمانٍ إلى يثرب (المدينة المنوَّرة)؛ ومن تلك الأسباب: خُروجُه صلى الله عليه وسلم سِرًّا ملتحفًا بظَلامِ الليل البَهِيم، وأيضًا خُروجُه من الباب الخلفي لدار أبي بكرٍ الصدِّيق، وسُلوكُه طريقًا غير مألوفةٍ للسائرين إلى المدينة، ومكثُه في غار ثور ثلاثة أيَّام حتى يختَفِي عن أعيُن الناس ويَفتُرَ الكفَّار عن طلَبِه فيتمكَّن من السَّير في أمنٍ، وأخْذُه زادَه صلى الله عليه وسلم قبلَ الهجرة، وأيضًا تَأمِين وصول الزاد يوميًّا بما كان يَفعَله عامر بن أبي فُهَيرةَ من رَعْيِ الغنم وحلب ألبانها قُرْبَ الغار مع تَعمِية الأثَر، وجعل عينًا له صلى الله عليه وسلم في قريش تُوصِله أخبارَ المشركين أوَّلًا بأوَّل، وهذه العين كانت عبدالله بن أبي بكرٍ- رضِي الله عنهما- واستِئجار عبدالله بن أرَيْقط، وكان رجلًا خِرِّيتًا عالِمًا بمسالك مكَّة وشعابها ودروبها.
سبب اختيار المدينة:
أ- وحيٌ وأمرٌ من الله:
إنَّ اختيار المدينة لم يكن اجتهادًا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من اختيار أحدٍ من أصحابِه، بل كان عن وَحيٍ أوحاه الله إليه، واختيارٍ اختارَه الله له.
جعَل البلاء يشتدُّ على المسلمين من المشركين؛ لما يعلَمُون من الخروج، فضيَّقوا على أصحابه وتعبَّثوا بهم، ونالُوا منهم ما لم يكونوا ينالُون من الشَّتْمِ والأذى، فشَكا ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذَنُوه في الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أُرِيتُ دارَ هِجرتكم؛ أُرِيتُ سبخةً ذات نخلٍ بين لابتَيْن- وهما الحرَّتان- ولو كانت السَّراة أرضَ نخلٍ وسباخ لقُلت: هي هي»، ثم مكَث أيَّامًا ثم خرج إلى أصحابه مَسرُورًا فقال: «قد أُخبِرتُ بدار هِجرتكم وهي يثرب، فمَن أراد الخروجَ فليَخرُج إليها»[5].
ب- صلاحية المدينة لقبول الدعوة:
لَقِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند العقَبَة في موسم الحج ستَّة نفرٍ من الأنصار، كلهم من الخزرج، فدَعاهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فكان من صُنعِ الله لهم أنهم كانوا من جِيران اليهود، فكانوا يسمَعُونهم يَذكُرون أنَّ الله- تعالى- يَبعَثُ نبيًّا قد أطلَّ زمانُه، فقال بعضُهم لبعض: هذا والله الذي تُهدِّدكم به يهود فلا يَسبِقونا إليه، فآمَنُوا به وبايَعُوه، وقالوا: إنَّا قد تركنا قومَنا، بيننا وبينهم حروب، فننصَرِف ونَدعُوهم إلى ما دعوتَنا إليه؛ فعسى الله أنْ يجمَعَهُم بك، فإن اجتَمعَتْ كلمتُهم عليك واتَّبعوك، فلا أحد أعز منك، وانصَرَفُوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، ولم تبقَ دارٌ من دور الأنصار إلاَّ وفيها ذكرٌ من رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم.
حتى إذا كان العام المقبل قدم مكَّة من الأنصار اثنا عشر رجلًا، منهم خمسة من الستَّة السابقين، وكلهم من الأوس والخزرج جميعًا، فبايَع هؤلاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند العقَبَة بَيْعَةَ النِّساء[6].
فلمَّا انصرَفُوا بعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أمِّ مَكتُوم، ومُصعَب بن عُمَير يُعلِّم مَن أسلَمَ منهم القرآنَ وشَرائعَ الإسلام، ويَدعُو مَن لم يُسلِم إلى الإسلام، فنَزَل مصعب بن عُمَير على أسعد بن زُرارَة.
وخرَج إلى الموسم جماعةٌ كبيرةٌ ممَّن أسلم من الأنصار يُرِيدون لقاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة قوم كفَّار منهم لم يُسلِموا بعدُ، فوافوا مكَّة، وكان في جُملتِهم البَراء بن معرور، فرأى أنْ يستَقبِل الكعبة في الصَّلاة، وكانت القِبلَة إلى بيت المَقدِس، فصلَّى كذلك طول طَريقِه، فلمَّا قَدِمَ مكَّة نَدِمَ، فاستَفتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «قد كُنتَ على قبلةٍ لو صبرتَ عليها»، مُنكِرًا لفعله.
فواعَدُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقَبةَ من أواسط أيَّام التشريق، فلمَّا كانت تلك الليلة دعا كعبُ بن مالكٍ ورجالٌ من بني سلمة عبدَالله بن عَمرو بن حَرام- وكان سيِّدًا فيهم- إلى الإسلام، ولم يكن أسلم، فأسلم تلك الليلة وبايَع، وكان ذلك سِرًّا ممَّن حضَر من كفَّار قومهم، فخرَجُوا في ثلث الليل الأوَّل مُتَسلِّلين من رِحالهم إلى العقَبَة، فبايَعُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندها على أنْ يمنَعُوه ممَّا يمنَعُون منه أنفُسَهم ونساءَهم وأبناءَهم، وأنْ يَرحَلَ إليهم هو وأصحابُه[7].
هكذا كانت المدينة أرضًا خِصبةً للدعوة والدولة الإسلاميَّة بما فيها من عناصر الدولة الثلاثة: الشَّعب، السُّلطة، الدولة.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
===============
[1] الروض الأنف للسهيلي (4/ 207).
[2] السيرة النبوية لابن هشام (1/ 480)، والمعجم الكبير للطبراني (22/ 177).
[3] المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري (5/ 382).
[4] تفسير القرطبي (8/ 146).
[5] سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي الشامي (3/ 224).
[6] وسُمِّيت بيعة النساء لعدم المعاهدة على القتال، حيث لم يكن شرع قبلُ.
[7] الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبدالبر الأندلسي (1/ 67-70)، بتصرُّف يسير.
الكاتب: أحمد مصطفى عبدالحليم.
المصدر: موقع الألوكة.